آخر التطورات
عد الى الخلفالفضاء المدني في العراق في ظل الحرب على غزة
(محاصرة المجتمع المدني)
شكلت
الاشهر الاربعة الاولى من العام (2024) حلقة اضافية مكملة لسلسلة
الانتكاسات وتضييق مساحات العمل، التي تعرض لها الفضاء المدني في العراق،
منذ تشكيل حكومة (تحالف بناء الدولة) أواخر العام 2022 والتي تقودها أحزاب
الاسلام السياسي المقربة من إيران. إذ لم تظهر الحكومة للوجود الا بعد صراع
سياسي امتد لقرابة عام كامل، وكاد ان يتحول الى حرب أهلية بين الفصائل
المسلحة، وانتهى بإعلان التيار الصدري انسحابه من العملية السياسية. وهذا
التراجع حدَّ من قدرات الفواعل الاساسية للفضاء المدني وبالخصوص المنظمات
غير الحكومية، التي عانت كثيراً من تكرار الاعتداء على بديهيات ممارسة
عملها، من حرية تعبير وتظاهر وتجمع سلمي، والوصول الى المعلومات والبيانات.
كما شملت ظاهرة ارتفاع نسب ونوعية الانتهاكات مناطق اقليم كردستان ايضاً،
بفعل الازمة السياسية بين الحزبين المهيمنين من جهة وبينها وبين الحكومة
المركزية من جهة أخرى، وكذلك الازمة الاقتصادية الناتجة عن توقف تصدير
النفط وتوقف دفع رواتب موظفي الإقليم.
انكفاء وتراجع تأثير
المجتمع المدني لم يكن من قبيل الصدفة وانما كان نتيجة لسياسة منهجية
استهدفت خلق فجوة بينه وبين افراد المجتمع، بالعمل على محو فكرة المكتسبات
التي حققتها منظمات المجتمع المدني، وهدم مرتكزات الثقة التي بنتها طيلة
السنوات التي تلت العام 2003، عن طريق اعادة احياء الفكرة القديمة في ذهنية
الرأي العام بانها جزء من منظومة دولية معادية وأدوات استعمارية حديثة،
تستهدف اعادة توصيف منظومة القيم والاخلاق خارج اطار ما هو سائد ومقبول،
كما عمدت الى خلق منظومة موازية بدعم تأسيس منظمات ومراكز تفكير مدعومة
بارتباطات سياسية غير معلنة، وتقديمها بصفتها بديلاً، يمكنه العمل لأجل
الحفاظ على الاخلاق كونه مرتبط بقيم دينية ولديه امتدادات مع احزاب سياسية
قابضة على السلطة .
في هذا السياق، عملت السلطات على وضع حواجز
وعوائق امام الحيز المدني، تشتمل ابتداء على قرار إبعاد جزء من الفاعلين في
الفضاء المدني عن الوصول الى عمليات صنع السياسات، على اثر اتهامات
بتنفيذها لبرامج تتعارض مع القيم الدينية للمجتمع والدعوة لمحاسبتها وسحب
ترخيصها القانوني، على اساس تنفيذها لبرامج في سنوات سابقة مع منظمات
اجنبية يدخل ضمن نشاطات الاخيرة قضايا الدفاع عن النوع الاجتماعي والجندر،
وذلك بعد صدور قرار حكومي بمنع التعامل بهذه المصطلحات واعتبارها لا تتوافق
مع المنظومة القانونية والاجتماعية للدولة. وقد تم تدعيم هذا المنهج من
خلال اقرار او السعي لإقرار حزمة تشريعية جديدة، تحد من حيوية النشاط
الحقوقي بصيغة تصل الى التجريم في حالات معينة، والتلويح بالعمل على اعادة
صياغة المنظومة التشريعية الحاكمة لعملها بطريقة توسع من صلاحيات الادارة
وقدرتها على سحب الترخيص دون الرجوع الى القضاء، ووضع عراقيل فيما يتعلق
بالتمويلات الخارجية، وكذلك محددات حول الجهات التي يمكن قبول المنح او
تمويلات البرامج منها، وانتهاء باستخدام التكنولوجيا ومنصات التواصل
الاجتماعي كأداة للقمع، تارة بحجب مواقع او وكالات خبرية ومنع ظهور اعلامي
للمعارضين للسياسات الحكومية، وتارة اخرى عن طريق المراقبة الرقمية
واستخدام الجيوش الالكترونية لغرض القيام بحملات تضليل ضخمة للرأي العام او
تشويه السمعة او الترهيب النفسي او التهديد بطريقة تؤدي الى الاغتيال
المعنوي او اضعاف القدرة على التأثير بالانزواء وعدم المشاركة في الشأن
العام، خوفاً من التصفية الجسدية التي قد تكون خياراً متاحاً في العادة
للتنظيمات المتشددة في مواجهة منتقديها، مع امكانية للإفلات من العقاب
بسهولة في ظل ضعف الاجراءات الحكومية .
مظاهر انحسار مساحات
العمل والانغلاق التي واجهها الفضاء المدني في العراق، لم تحل دون السعي في
محاولات الدفع باتجاه المحافظة على المكتسبات السابقة، بالدعوة للتضامن
واصدار بيانات وتوجيه الرسائل الى الفاعلين الرسميين محلياً ودولياً، وظهور
محاولات للتشبيك لغرض التقليل من حجم ضغوطات الفاعلين الرسميين وغير
الرسميين، بما يحد من حالات الانتهاك والمضايقات والسجن التي يتعرض لها
الناشطون في مجالات حقوق الانسان او العاملين في الصحافة والاعلام
والفاعلين نقابياً، خصوصاً مع نية السلطات تمرير قوانين تتعلق بتنظيم حرية
التعبير دون الرجوع الى ملاحظات المجتمع المدني عليها والتي وصفت بانها ذات
طابع قمعي أـكثر مما هي ذات طابع تنظيمي .
في المقابل شكلت
احداث العدوان على مدينة غزة، والجرائم التي ارتكبت ضد المدنيين فيها من
قبل الكيان الاسرائيلي، عامل ذا طابع مزدوج بالنسبة للفضاء المدني في
العراق، حيث أدت الاحداث الى تخفيف الضغط المحلي الرسمي وغير الرسمي على
بعض النشاطات وحرية التفاعل مع الحدث، من خلال توسيع مساحات العمل فيما
يتعلق بدعم القضية الفلسطينية، لعدم تعارضها مع التوجه الحكومي، حيث دعمت
النشاطات الاغاثية والفعاليات الاحتجاجية مع بدء الاحداث في اواخر العام
الماضي. فقد ارسلت المساعدات عن طريق الهلال الاحمر العراقي الى مطار
العريش المصري، تمهيداً لإرسالها الى سكان غزة، كما وصل الدعم الحكومي الى
السعي في بعض الاحيان للتزاحم مع هذه النشاطات وارسال رسائل انها ليست
بمعزل عن التوجه الرسمي للدولة. ففي الوقت الذي دعا فيه ناشطين مدنيين طلبة
الجامعات لغرض الاعلان عن حملة تضامن مع طلبة الجامعات الامريكية في
حركتهم المعارضة لجرائم الابادة الجماعية التي ارتكبت ضد سكان غزة، واعلن
عن آليات التنسيق والعمل، بادرت وزارة التعليم بتحديد موعد للتظاهرات داخل
الجامعات، قبل ان تعلن الجهات المنظمة للحملة توقيتاتها، باعتبار ان
الوزارة تمنع اي عمل تنظيمي للطلبة داخلها وتعتبره مخالفاً للقوانين الخاصة
بالتعليم العالي، وفعل يوجب المحاسبة الشديدة، حيث لا توجد اتحادات طلابية
معترف بها قانوناً .
في الجانب الاخر اثرت الاحداث على علاقة
المجتمع المدني بالجهات المانحة. فمع بدء الاحداث، أطلقت مجموعة من
النداءات لحماية المدنيين أثناء النزاع، وتلتها دعوة لمقاطعة منتجات
الشركات التي تدعم اسرائيل، لم تحقق اهدافها بشكل كامل، نتيجة لعدم وجود
ثقافة مجتمعية تتقبل فكرة وجود تأثير فاعل عند مقاطعة المنتجات والسلع.
بعدها صدر بيان المنظمات غير الحكومية حمل عنوان (صرخة إلى الضمير الإنساني
العالمي) لإعلان التضامن فيه مع قطاع غزة والشعب الفلسطيني، وقعت عليه
اكثر من (600) منظمة غير حكومية، وجهت فيه دعوات إلى الأمم المتحدة من أجل
تفعيل بنود إعلانها العالمي لحقوق الانسان، والتدخل بقوة وحزم لإنهاء
العدوان، والمطالبة بالنظر لقضية الشعب الفلسطيني بصورتها الشاملة،
بتاريخها وحقائقها، ومبدأ الحياة لكل انسان في وطنه وارضه، وفقاً لبنود
المواثيق الدولية وتطبيقاً للقرارات الدولية التي اصدرتها المنظمة، والدعوة
لوقف العقاب الجماعي الذي تعرض له القطاع. على اثرها سربت معلومات ان اكثر
من دولة في الاتحاد الاوربي تعتزم اصدار قوائم منع تعامل مع المنظمات
الموقعة على البيان، على اساس التحريض على الكراهية والعنف، مما شكل عامل
ضغط اضافي على طبيعة وحجم البرامج التي تحضي بالدعم الخارجي، هذا دفع
العديد من المدافعين عن حقوق الانسان الى المجازفة بخسارة التمويل الذي من
الممكن الحصول عليه في حال المضي بالتصريح بما يخالف توجهات بعض المانحين
الدوليين، وبما يؤدي الى انهاء شراكاتهم، على الرغم من ان ما دفعهم الى
اطلاق ابيان هو العنف والحرب غير المبررة الذي تعرض له المدنيين في غزة،
والذي يتعارض مع مبادئ حقوق الانسان والشرعة الدولية، بما قد يؤدي الى
اضعاف موقف هذه المنظمات داخلياً، حيث انها كثيراً ما تستند الى شراكاتها
الدولية في ضمان توفير حماية لعملها وشخوصها من الاجراءات التعسفية التي من
الممكن ان تطالها، خصوصاً مع ما تواجهه من عداء من داخل المؤسسات الحكومية
.