الفضاء المدني في الأزمات: حالة لبنان - بقلم رغيد ضاهر - 2020
المقدمة (الرجاء الضغط هنا لتحميل التقرير الكامل)
السياق الاجتماعي والسياسي
منذ انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية رسميًا في العام 1990، لم تراع جهود إعادة الإعمار وحلّ النزاعات الأوّلويات والحاجات الاجتماعية والاقتصادية في برامج السياسة العامة. وتراكمت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية تدريجيًا على مرّ السنوات بسبب الطابع الجديد لخدمات الدولة الاجتماعية من جهة والاتّكال المفرط على قطاعَي المصارف والخدمات من جهة أخرى، كما زادت قيمة الدين العام وارتفعت نسبة الفقر وساءت حالة الخدمات العامة (بومان، 2019).
ومنذ العام 1990، اعتمدت الحكومات المتتالية على الاستدانة على نطاقٍ واسع من دون إعطاء الأولويّة للإصلاحات الطويلة الأمد من أجل دعم اقتصاد البلد أو توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والنقل العام وغيرها. إضافةً إلى ذلك، يعتمد لبنان إلى حدّ بعيد على الواردات، كما أنّ تدفّق الدولار الأميركي من الخارج هو ما سمح للمصرف المركزي بتثبيت قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار. إلاّ أنّ التراجع الملحوظ في تدفق العملات الصعبة إلى البلد عام 2019 أدّى إلى تدهورٍ كبيرٍ في الاقتصاد اللبناني، ما فاقم من فشل النموذج المُعتمَد. فقد انهارت قيمة الليرة اللبنانية مقارنة بالدولار الأميركي وعملات أخرى. وأضعفت أزمة العملة هذه قدرةَ لبنان على سداد ثمن الواردات، ما زاد من اعتماده على احتياطي المصرف المركزي، الذي انخفض بدوره بشكلٍ كبير. وفرضت المصارف التجارية قيودًا صارمة على عمليات السّحب والتحويل بالدولار الأميركي، كما تخلّفت الحكومة اللبنانية عن دفع مستحقات سندات اليورو (اليوروبوندز) من أجل الحفاظ على ما تبقّى من الاحتياطي لدعم السلع.
وفي 17 تشرين الأوّل/أكتوبر 2019، فرضت الحكومة اللبنانية ضرائب جديدة مما أشعل أحد أكبر التحرّكات الشعبية في تاريخ لبنان المعاصر، بعد سنواتٍ من الإهمال والفساد والحرمان من الحقوق والخدمات الأساسية، فعلت الأصوات المُطالبة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والمحاسبة.
وتفاقم الوضع الاجتماعي والاقتصادي مع انتشار جائحة فيروس كورونا (كوفيد-19) وما تبعها من حالات إقفالٍ تامّ بدءًا من 13 آذار/مارس 2020. وأفلست شركات عدّة، ما زاد من نسبة البطالة، ولم يعد المياومون قادرون على تأمين حاجياتهم الأساسية. كذلك، فرت الجائحة ضغوطًا هائلة على القطاع الصحي، مع افتقار مستشفيات عدّة إلى الموارد المالية والمادية، خاصةً أجهزة توليد الأكسجين ومعدات تنفسية أخرى. وأدّى تزايد عدد الحالات الحرجة التي تطلّبت الاستشفاء إلى نقصٍ في الأسرّة المتوفّرة، ووصلت وحدات العناية الصحية إلى سعتها القصوى. وبهدف معالجة هذا الوضع، لم تسمح المستشفيات والمراكز الطبية سوى بدخول الحالات الحرجة والشابة إلى قسم الطوارىء وألغت كلّ العمليات والإجراءات الطبية غير المستعجلة، فخسر الكثيرون قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الطبية الأساسية.
بتاريخ 4 آب/أغسطس 2020، دمّر أحد أكبر الانفجارات غير النووية في التاريخ العاصمةَ بيروت، فقضى على جزء من المرفأ وأدّى إلى دمارٍ هائلٍ في العاصمة وضواحيها، موديًا بحياة 200 شخص وجرح أكثر من 6500. وسبّب الانفجار بأضرار ماديّة في حوالي 77 ألف شقةٍ و10 آلاف مبنى على مسافة 3 كلم من المرفأ، مشرّدًا بذلك حوالى 300 ألف شخصٍ. وتضرّرت أربعة مستشفياتٍ بشدّة وأصبحت خارج الخدمة. وفرض الانفجار عبئًا كبيرًا على المستشفيات القريبة والبعيدة التي استنفدت مواردها الشحيحة أساسًا، نظرًا إلى أنّ مستشفيات بيروت لم تتمكّن وحدها من استيعاب العدد الهائل من المُصابين ومعالجتهم. وأثّر الانفجار في مدى توفّر السلع في البلد، لأنّ المرفأ هو نقطة الدخول الرئيسية لأكثر من 70% من واردات لبنان (منصور وأبي سليمان، 2020). وقدّر التقييم السريع للأضرار والاحتياجات الذي أجراه البنك الدولي الأضرار المادية بقيمةٍ تتراوح بين 3.4 و4.6 مليارات دولار أميركي والأضرار الاقتصادية بين 2.9 و3.5 مليارات دولار أميركي.
فضلًا عن ذلك، ازداد معدّل الفقر بسبب الوضع الاقتصادي المتردّي والأزمة المالية والتضخّم الذي وصل إلى أكثر من 85% في 2020 مقارنةً بالعام السابق (صندوق النقد الدولي، 2020)، وما لحقه من تراجع في قدرة السكان الشرائية وارتفاع في نسبة البطالة التي وصلت إلى 39.5% في أواخر العام 2020.
في ظلّ الأزمات المتشعّبة والمتراكمة، فشل المسؤولون اللبنانيون في تنفيذ الإصلاحات اللازمة لتخفيف وطأة هذه الأزمات. فقد طالبوا بالحصول على قروض ومساعدات من الدول المانحة والمنظماتٍ الدولية، لكنّ الأخيرة اشترطت كلها تنفيذ إصلاحات طال انتظارها في مجال الحوكمة وإصلاحاتٍ ضريبية ومالية واجتماعية. وخلال مؤتمر "سيدر" في نيسان/أبريل 2018، الذي عُقِد بهدف مساعدة لبنان على جمع الأموال تحت إشراف المجتمع الدولي لدعم البنى التحتية، حصل لبنان على تعهّدات بسداد مبلغ يفوق الـ11 مليار دولار. إلّا أنّ هذا التمويل كان مشروطًا بتنفيذ إصلاحاتٍ على مستوى الاقتصاد والميزانية التزم بها لبنان. وفي السياق نفسه، في كانون الثاني/يناير 2021 وافق البرلمان اللبناني على قرضٍ من البنك الدولي بقيمة 246 مليون د.أ.، شرط تنفيذ إصلاحاتٍ هامّة، مخصّص لتنفيذ المشروع الطارىء لدعم شبكة الأمان الاجتماعي من خلال تحويلِ 200 ألف ليرة لبنانية شهريًا إلى حوالى 200 ألف عائلةٍ من الأفقر في لبنان (منظمة دعم لبنان، 2021). إلا أنّ هذا القرض ليس سوى مسكّنًا سيساهم في الحفاظ على النظام السياسي الطائفي الليبرالي اللبناني من دون تنفيذ برنامج الإصلاحات ومن دون التطرّق إلى الأسباب الأساسية للفقر، مما سيزيد من اعتماد الشعب اللبناني على القادة السياسيين من دون أيّ تغييرٍ جذريّ (بو خاطر وأبي ياغي، 2021).